فصل: تفسير الآيات (28- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (28- 33):

{قال أوْسطُهُمْ ألمْ أقُلْ لكُمْ لوْلا تُسبِّحُون (28) قالوا سُبْحان ربِّنا إِنّا كُنّا ظالِمِين (29) فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومُون (30) قالوا يا ويْلنا إِنّا كُنّا طاغِين (31) عسى ربُّنا أنْ يُبْدِلنا خيْرا مِنْها إِنّا إِلى ربِّنا راغِبُون (32) كذلِك الْعذابُ ولعذابُ الْآخِرةِ أكْبرُ لوْ كانُوا يعْلمُون (33)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وما كان القرع بالمصائب مظنة الرقة والتوبة لمن أريد به الخير، وزيادة الكفر لغيره، استأنف قوله: {قال أوسطهم} أي رأيا وعقلا وسنا ورئاسة وفضلا، منكرا عليهم: {ألم أقل لكم} أن ما فعلتموه لا ينبغي، وأن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد.
ولما كان منع الخير ولاسيما في مثل هذا مستلزما لظن النقص في الله تعالى إما بأنه سبحانه لا يخلف ما حصل التصدق به وإما أنه لا يقدر على إهلاك ما شح الإنسان به، قال مستأنفا: {لولا} أي هلا ولم لا {تسبحون} أي توقعون التنزيه لله سبحانه وتعالى عما أوهمه فعلكم، وأقل التسبيح الاستثناء عند الإقسام شكا في قدرة الإنسان وإثباتا لقدرة الملك الديان استحضارا لعظمته سبحانه وتعالى، ودل سياق الكلام على أنهم كانوا متهيئين للتوبة بقوله: {قالوا} من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم فقال سبحانه حاكيا عن قولهم: {سبحان ربنا} أي تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم عن أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضما لأنفسهم وخضوعا لربهم وتحقيقا لتوبتهم لأن ما كانوا عليه من الحال يقتضي أن لا يصدق رجوعهم عنه بقولهم: {إنا كنا} أي بما في جبلاتنا من الفساد {ظالمين} أي راسخين في إيقاعنا الأشياء في غير مواقعها حيث لم نعزم عزما جازما على ما كان يفعل أبونا من البر، ثم حيت حلفنا على ترك ذلك ثم حيث لم نرد الأمر إلى الله بالاستثناء حيث حلفنا فإن الاستثناء تنزيه الله عن أن يجري في ملكه ما لا يريد، وأكد توبتهم بقوله مسببا عن اعترافهم بالظلم: {فأقبل بعضهم} أي في حال مبادرتهم إلى الخضوع {على بعض} ودلت التسوية بين فريقيهم في اللفظ على الاستواء في التوبة {يتلاومون} أي يفعل كل منهم مع الآخر في اللوم على ما قصده من المنع وترك ما تركوه من الإعطاء والدفع ما يفعله الآخر معه، وينسب النقصان إليه كما هو دأب المغلوبين العجزة.
ولما تشوف السامع إلى معرفة بعض ذلك قال: {قالوا} منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته عن كل شيء: {يا ويلنا} أي هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادتك لنا فإنه لا نديم لنا إلا أنت، والويل هو الهلاك والإشراف عليه.
ولما كان أهل الرذالة ينكرون أن يكون من يمنع الفقراء طاغيا، أكدوا قولهم: {إنا كنا} أي جبلة وطبعا {طاغين} أي مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع الفقراء وعلى جذها في الصباح من غير استثناء فعل القادر، وكان ذلك إن كان لابد لنا منه ممكنا بغير قسم ولا إخفاء من الغير ولا مخافتة حال السير بأن يقال للفقراء: يفتح الله، ونحو ذلك من الكلام.
ولما قدموا ما هو أنفع لهم من اللوم المتقضي لإجماعهم على التوبة فعلم بذلك الندم الذي هو أمارة التوبة، استأنفوا جوابا لمن سأل: هل اقتصروا على التلاوم؟ قولهم: {عسى} أي يمكن أن يكون وهو جدير وخليق بأن يكون {ربنا} أي الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وبإهلاك ثمرها الآن تأديبا لنا {أن يبدلنا} أي من جنتنا شيئا {خيرا منها} يقيم لنا أمر معاشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة بما أفاده إيقاع الفعل على ضميرهم، وقراءة أبي عمرو ونافع بالتشديد وقراءة الباقين بالتخفيف وهما متقاربتان غير أن التشديد يدل على التدريج، فالتخفيف أبلغ معنى: وإنما تعلق رجاؤنا بسبب توبتنا وعلمنا بأن ربنا قادر على ما يريد، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ولما دل هذا الدعاء على إقبالهم على الله وحده صرحوا وأكدوا لأن حالهم الأول كان حال من ينكر منه مثل ذلك فقالوا معللين: {إنا} ولما كان المقام للتوبة والرجوع عن الحوبة، عبروا بأداة الانتهاء إشارة إلى بعدهم عن الحضرات الربانية تأدبا منهم فقالوا: {إلى ربنا} أي المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره سبحانه {راغبون} أي ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام بعد العفو، وقد قيل إن الله تعالى جلت قدرته قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان بحيث كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل- رواه البغوي عن ابن مسعود، ولكن لما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله ولم يجلهم بجلاله طواه، وذكر ما صور هذا الكلام وأنتجه من مساواة حال قريش وحال هؤلاء في الإحسان وطول الحلم مع احتقار أوليائه والتقوى عليهم بأفضاله ونعمائه، فقال مرهبا: {كذلك} أي مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كانوا عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان منهم لفعلهم والاستصواب وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب: {العذاب} الذي تحذرهم منه وتخوفهم به في الدنيا، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت.
ولما كانوا منكرين لأمور الآخرة أشد من إنكارهم لأمور الدنيا أكد قوله: {ولعذاب الآخرة} أي الذي يكون فيها للعصاة والجبارين {أكبر} أي في كل ما يتوهمونه.
ولما كان هذا موجبا لمن له أدنى شعور للهروب منه قال: {لو كانوا} أي الكفار {يعلمون} أي لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه مما عرفوا أنه يغضب الله فيكون سبب العذاب في الدارين، وهم مع ذلك مما يرزئ بهم عند الله وعند الناس من تلك الآثار الخبيثة التي منها الأيمان الكاذبة، ويدل على عدم شجاعتهم وقلة عقولهم، لكنهم ليس لهم نوع علم الآن، والمختوم بموته على الكفر لا يتجدد له نوع علم، وغيره سيرجع في الوقت الذي قدره الله له. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {قال أوْسطُهُمْ} يعني أعدلهم وأفضلهم وبينا وجهه في تفسير قوله: {أُمّة وسطا} [البقرة: 143].
{ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون} يعني هلا تسبحون وفيه وجوه الأول: قال الأكثرون معناه هلا تستثنون فتقولون: إن شاء الله، لأن الله تعالى إنما عابهم بأنهم لا يستثنون، وإنما جاز تسمية قول: إن شاء الله بالتسبيح لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله، لكان ذلك يوجب عودة نقص إلى قدرة الله، فقولك: إن شاء الله، يزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحا.
واعلم أن لفظ القرآن يدل على أن القوم كانوا يحلفون ويتركون الاستثناء وكان أوسطهم ينهاهم عن ترك الاستثناء ويخوفهم من عذاب الله، فلهذا حكى عن ذلك الأوسط أنه قال بعد وقوع الواقعة: {ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون}.
الثاني: أن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم قال الأوسط لهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام الأول وقال: {لوْلا تُسبّحُون} فلا جرم اشتغل القوم في الحال بالتوبة و:
{قالوا سُبْحان ربِّنا إِنّا كُنّا ظالِمِين (29)}
فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به لكن بعد خراب البصرة الثالث: قال الحسن: هذا التسبيح هو الصلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة وإلا لكانت ناهية لهم عن الفحشاء والمنكر ولكانت داعية لهم إلى أن يواظبوا على ذكر الله وعلى قول: إن شاء الله، ثم إنه تعالى لما حكى عن ذلك الأوسط أنه أمرهم بالتوبة وبالتسبيح حكى عنهم أشياء أولها: أنهم اشتغلوا بالتسبيح وقالوا في الحال سبحان ربنا عن أن يجري في ملكه شيء إلا بإرادته ومشيئته، ولما وصفوا الله تعالى بالتنزيه والتقديس اعترفوا بسوء أفعالهم وقالوا إنا كنا ظالمين.
وثانيها:
{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومُون (30)}
أي يلوم بعضهم بعضا يقول: هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول: ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتني في جمع المال فهذا هو التلاوم.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل:
{قالوا يا ويْلنا إِنّا كُنّا طاغِين (31)}
والمراد أنهم استعظموا جرمهم.
ثم قالوا عند ذلك:
{عسى ربُّنا أن يُبْدِلنا خيْرا مّنْها} قرئ {يُبْدِلنا} بالتخفيف والتشديد {إِنّا إلى ربّنا راغبون} طالبون منه الخير راجون لعفوه، واختلف العلماء ههنا، فمنهم من قال إن ذلك كان توبة منهم، وتوقف بعضهم في ذلك قالوا: لأن هذا الكلام يحتمل أنهم إنما قالوه رغبة منهم في الدنيا.
ثم قال تعالى: {كذلِك العذاب} يعني كما ذكرنا من إحراقها بالنار، وهاهنا تم الكلام في قصة أصحاب الجنة.
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران أحدهما: أنه تعالى قال: {أن كان ذا مالٍ وبنِين إِذا تتلى عليْهِ ءاياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14، 15] والمعنى: لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا: بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية والثاني: أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها فقلب الله عليهم القضية فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بد حلفوا على أن يقتلوا محمدا وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة.
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال: {ولعذابُ الآخرة أكْبرُ لوْ كانُواْ يعْلمُون} وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قال أوْسطُهُمْ} أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم.
{ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبِّحُون} أي هلاّ تستثنون.
وكان استثناؤهم تسبيحا؛ قاله مجاهد وغيره.
وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه.
قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله.
فقال لهم: هلاّ تسبحون الله؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.
قال النّحاس: أصل التسبيح التنزيهُ لِلّه عز وجل؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقيل: هلاّ تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خُبْث نيّتكم؛ فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكّرهم انتقامه من المجرمين {قالواْ سُبْحان ربِّنآ} اعترفوا بالمعصية ونزّهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل.
قال ابن عباس في قولهم: {سُبْحان ربِّنآ} أي نستغفر الله من ذنبنا.
{إِنّا كُنّا ظالِمِين} لأنفسنا في منعنا المساكين.
{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومُون} أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا.
{قالواْ ياويلنا إِنّا كُنّا طاغِين} أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء.
وقال ابن كيْسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.
{عسى ربُّنآ أن يُبْدِلنا خيْرا مِّنْهآ} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعنّ كما صنعت آباؤنا؛ فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزُغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا.
وقال اليمانيّ أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وقال الحسن: قول أهل الجنة {إِنّآ إلى ربِّنا راغِبُون} لا أدري إيمانا كان ذلك منهم، أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؛ فيوقف في كونهم مؤمنين.
وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا.
والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا؛ حكاه القشيريّ.
وقراءة العامة {يُبْدِلنا} بالتخفيف.
وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان.
وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم.
والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه.
وقد مضى في سورة (النساء) القول في هذا.
قوله تعالى: {كذلِك العذاب} أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال؛ عن ابن زيد.
وقيل: إن هذا وعْظٌ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدْب لدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي كفِعْلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا في الدنيا {ولعذابُ الاخرة أكْبرُ لوْ كانُواْ يعْلمُون} وقال ابن عباس: هذا مثلٌ لأهل مكة حين خرجوا إلى بدْرٍ وحلفوا ليقتلن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعنّ إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القيْنات على رؤوسهم؛ فأخلف الله ظنهم وأُسِرُوا وقُتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصِرّام فخابوا.
ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا؛ والأول أظهر، والله أعلم.
وقيل: السورة مكّية؛ فبُعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحْط، وعلى قتال بدْر. اهـ.